للتاريخ من يحكيه


كلمة البشير السيد حول انتفاضة الزملة 2008




كلمة الأخ البشير مصطفى السيد عضو الامانة الوطنيةمسؤول امانة الفروع بمناسبة الذكرى 38 لانتفاضة الزملة التاريخية يوم 18 يونيو 2008 



الإخوة الأخوات الحضور، ثماني سنوات وثلاثة عقود مرت بعد ان رفض الشعب الصحراوي الاستكانة والخنوع والاستسلام للواقع الاستعماري وسياساته كقدر أزلي محتوم. لقد أرست أحداث مظاهرات الزملة التاريخية أولى الاخلالات في طبيعة العلاقات التقليدية التي كانت قائمة بين الشعب والمستعمر وأعادت النظر واسعا في مجمل ما يجب أن تنبني عليه تلك العلاقات وكذا المرجعيات التي من شأنها أن تكفل الحدود الدنيا من المصداقية والنموذجية فيما يجب أن تقوم عليه تلك العلاقات من حيث التأسيس وطبيعة التعاطي.

إن بعض التوقف عند تلك الاحداث بمقدماتها وما افضت إليه من نتائج ليخلص معه كل متمعن إلى انه إنما يقف إزاء معركة وإن لم تكن هي أولى سلسلة المعارك البطولية التي تصدى فيها الصحراويون للمستعمر الأجنبي ولا آخرها، إلا أنها بحكم موقعها، بين كل تلك المعارك فإنها كانت بمثابة الحلقة الوسطى في " سلسلة الخلق " للكيان الوطني الصحراوي المقاوم لما اشتملت عليه وأخذته عن سابقاتها، ولما رفدت وأمدت به لاحقاتها، الشيئ الذي كان له الدور الكبير والمؤثر في تحقيق الانتقال وإحداث الحراك في ذلك الواقع الراكد ووسطه الاستعماري الآسن.

فضلا عن كونها شكلت المواجهة الميدانية ضد المستعمر إلا أنها كانت الأولى من حيث كونها جاءت على نحو لا سابق عهد للصحراويين به، فجموع المتظاهرين الصحراويين العزل من أي سلاح عدا عن سلاحي الإيمان والحجارة من جهة، في مواجهة الشرطة والجيش الاستعماريين بكامل تسليحيهما من الجهة المقابلة مما رجح الحصيلة الميدانية المادية مذبحةً اقترفها المستعمر( شهداء، مفقودون، جرحى، ومعتقلون، منفيون ). وبالمقابل خاض الصحراويون تجربة رائدة وفريدة من نوعها في تاريخنا ( المسالمة مقابل العنف ) ورغم ثمنها الباهض إلا أنها حطمت بعضا مما كان يحيط به المستعمر نفسه من هالة ورهبة وحررت الجماهير نفسيا من أسر استكانت له على مر عقود طويلة، إن ما جعل منها تميزا كمواجهة هو ما اتصفت به من طبيعة تسليح لطرفي المواجهة خلافا لمجمل المعارك السابقة ذات الطابع الجهادي التي كان الطرف الصحراوي فيها يتوفر على الحدود الدنيا من ادوات الدفاع ودفع الأعداء، وأرسى وجود تنظيم سياسي سري ممثلا آنذاك في المنظمة الطليعية لتحرير الصحراء التي كانت وراء فعاليات تلك الأحداث ( التجمع والاحتشاد، إعداد وتقديم المذكرة، التظاهر، الصدامات )، أرسى إضافة جوهرية في مجمل العمل الصحراوي المقاوم من خلال المعطى السياسي الذي حَضَرَ لأول مرة في التاريخ الصحراوي المعاصر، الأمر الذي خلت منه جميع حلقات فصول التاريخ الصحراوي السابقة.

وفي هذا الصدد دعونا أيها الإخوة وأيتها الأخوات نتصفح معا بعض الصفحات التي اخترقت إشراقتها ما أراد أن يحيطها به ويلفها به المستعمر من ظلامية ـ لا لحاجة بنا لمراجعة أو إعادة تقييم لهذا الحدث التاريخي أو لتحري شهادة حول وطنية هذا الحدث ونضالية أبطاله التي لا ننتظرها من أحد ـ وإنما لنقف على حجم وعمق تأثير هذا التنظيم مما انعكس وسيظهر لنا جليا في طبيعة انشغال وتعاطي المستعمر معه، فبعد ان أقرت السلطات الاستعمارية الإسبانية بوجوده، رفضت رفضا مطلقا مطالبه، وبدأت تخطط لازالة هذا التنظيم بشتى الصيغ المعلنة والسرية المخابراتية وإنزال أقصى العقوبات الضارة بمصالح الأفراد والأشخاص المنتسبين له ( سياسية، اقتصادية، عسكرية ) والتعامل الصارم قبل كل ذلك مع زعيم الحزب محمد سيدإبراهيم بصيري المعلوم لديهم وذي المواقف المعروفة لدى أجهزة المستعمر وهي المواقف الثابتة التي لا يقبل التراجع عنها، كما انه على أتم الاستعداد للتضحية في سبيلها إلى أقصى الحدود التي يمكن أن تمس حريته وسلامته الشخصية.
يقول النص من الوثيقة السرية المعدة عن الحزب السري الصحراوي من طرف جهاز الاستخبارات الإسبانية بالإقليم والمحررة بعاصمته العيون بتاريخ 12/06/1970:
إن الحكومة لا يمكن لها أن تقبل بأية حال وجود هذا الحزب، وأكثر من ذلك أن تقبل الشروط التي يسعى لفرضها ( .... )
الأعمال الضرورية للوصول إلى إزالة المنظمة.
السبيل الوحيد الممكن هو اتباع الإجراءات الضرورية من أجل إزالة هذة المنظمة. (...... ) وهذا الهدف لن يكون سهل المنال لأن الأمر يتعلق بمواجهة أفكار. ( .... ) الإجراءات التي يمكن أن تتبعها الحكومة يمكن أن تكون مباشرة ( عن طريق القوة ) أو غير مباشرة، قصدها تشويه المنظمة وإخمادها بوسائل غير معلنة، ( .... ) عملية مباشرة ضد مكونات الحزب وبالخصوص ضد رأسه البين ( المسمى بصير ) لا تمثل صعوبة من حيث التطبيق ( اعتقالات، استنطاقات، عقوبات، طرد،.....الخ ) ولكن بصفة صريحة يجب فهم أن إجراء من هذا القبيل لن يكون مفيدا لمصالحنا لأنه بالطبع سينجم عنه أثر غير مرغوب فيه ويقوي موقف الحزب، وبهذا المعنى يظهر أن بصير بنفسه صرح أنه غير مكترث أن يسجن، ولا يهمه أن يتعرض لإجراءات من هذا القبيل لأن هذا كله من شأنه تقوية شأن الحزب.
وفي ضوء ما سبق يتضح أن العمل المباشر ليس الأنسب في الوقت الراهن، فيما يخص الأعمال غير المباشرة،
هذه يمكن ان تكون من نوعين: بعضها على شاكلة الأفعال المباشرة معتمدة على استعمال القوة، ولكن منفذة بأسلوب سري، أما البعض الأخر غير المباشر فقصده الإساءة إلى سمعة المنظمة.
عمل غير المباشر عن طريق السرية أو مقنع تحت أغراض أخرى، سيتمثل في اعتقال الرأس البين كإجراء أولي. يجب اعتقاله بطريقة سرية، ويجب نقله إلى مكان خارج الإقليم، وتركه في عزلة إلى غاية أن يستقر الوضع بل حتى بعد إجراء الإستفتاء. وبعد ذلك نعمل بطريقة مماثلة ( لكن ليس بنفس التشدد ) ضد الأعضاء البارزين والأضعف، سيتمثل العمل في ما يخص هؤلاء في: الإقالة إن كانوا شيوخا، فقدان التجارة إن كانوا تجارا، الترحيل والطرد إن كانوا عسكريين..
انتهى النص

وكونها كانت قد تولدت لديها القناعة بأن الموضوع الذي هي بصدد التصدي له هو موضوع بعيد عن الارتجال والعشوائية وأنه مؤسس له سياسيا عبر أفكار غير قابلة للمواجهة بالمقاربة الأمنية عن طريق العنف وباقي الأساليب الاستخباراتية وعصية على الاجتثاث، في ضوء ما إرتأته من عدم جدوائية ذلك النوع من المقاربة مادامت تعي أن الأمر يتعلق بمعطى سياسي ( الحزب ) عكفت السلطات الاستعمارية على استكشاف إمكانية استخدام المقاربة الأكثر سياسية من خلال إيجاد صنيعة سياسية لها تقوم " مصداقيتها " على كون أعضائها من "أبناء البلد"، وهو الأمر الذي أدت مواجهات انتفاضة الزملة إلى الأحتفاظ به وإرجاء توظيفه ولو إلى حين، وهو ما تم بالفعل عندما اخرجته إلى الوجود، حينما عاود التنظيم السياسي الصحرواي الحضور بعد إعلان الجبهة الشعبية لتحرير الساقية ووادي الذهب وتمثل آنذاك في " حزب البونس "، وما اشبه اليوم بالأمس

يقول النص مرة أخرى:

وختاما نعرض حلا آخرا نعتبر أن بإمكانه أن يشكل معالجة ليس فقط للأوضاع الحالية، وإنما لأوضاع ستنشأ بالضرورة في المستقبل، يتمثل هذا الإجراء في إنشاء حزب جديد. طبعا لن تكون الحكومة هي من سيكونه، سينظمه أبناء من البلد الذين سيرفعون إلى الحاكم العام ملتمسا لترخيصه والاعتراف به من طرف الحكومة.
وقوانين وبرنامج هذا الحزب ستعد من طرف حكومتنا. وستحدد له خطوط العمل التي عليه إتباعها في كل وقت.
نعتقد أن حزبا ـ على هذه الشاكلة ـ منظم جيدا، سيكون أداة ذات قيمة لا تقدر بالنسبة لحكومتنا، التي ستحظى بواسطة غير رسمية للتأثير على سكان البلد، وفي هذه الحالة بالتحديد، واسطة لامثيل لها للقضاء على الحزب السري.
لا تخفى علينا العراقيل التي تعترض مثل هذا الحل، ولكن لا يجب أن ننسى أن حزبا أصبح موجودا هناك. وبالتالي لا مسوغ لمن يرى في خلق حزب آخر حجة في مفاقمة الأمور، لاسيما وأننا نقر أن الحزب الذي أصبح موجودا سيكون من الصعوبة بمكان القضاء عليه بصفة تامة.
انتهى النص.

وهنا لايسعنا أيتها الإخوة والاخوات إلا ان نتوقف ولو مليا عند زعيم هذه المنظمة، أحد أبناء الشعب الصحراوي البررة ألا وهو الفقيد محمد سيد إبراهيم بصيري، هذا الرجل الذي شاء القدر أن يعرفنا أكثر مما عرفناه، فكان له أن قرأنا أكثر مما قرأناه، فهلا عاد محمد سيد إبراهيم بصيري لنعطي بعض ما قرأ وعرف عنا معناه؟ فقد كان هذا الرجل البصيرة التي نفذت بها الجماهير إلى مدارك أبعد من تلك التي أرادها المستعمر قدرا أبديا لها، فمثل بذلك زعيم الرعيل الأول الذي أشهر إيمانه بقضايا الشعب الصحراوي كأولوية بدلا من أولويات المستعمر، وهو ما كان ليتسنى له لولا ما توفر عليه وتمثله من قوة إيمان وإستعداد للتضحية فأسس المنظمة وقاد انتفاضة الزملة التاريخية في مثل هذا اليوم 17 يونيو من سنة 1970 بعد ان رآها الخيار والقرار الذي لا بد منه لما سيترتب عليه فيما له علاقة بوضع المنظمة والواقع الصحراوي ككل في حاضره ومستقبله، فكأني بلسان حاله، في مواجهة لحظة الكينونة هذه، يردد إما أن تقوم الانتفاضة الآن أو لا تقوم أبدا، كما قالها الشهيد الولي ذات يوم إما أن تقوم الثورة الآن أو لا تقوم أبدا.

لقد كان الفقيد محمد سيد إبراهيم بصيري صاحب الفضل، فضلا عن كل ذلك، في إثراء قاموس خطابنا السياسي بإدخال فعل ومفهوم الانتفاضة إليه، فكأنما كان الفقيد المغيب يلازمنا وما فتئ يعاودنا في كل لحظة نقف فيها وقفة مع الذات في مواجهة الآخر المعتدي، فهاهو ماثل بيننا حينما احتشدت جماهير شعبنا وغصت بها جميع مدننا ومداشرنا تتظاهر وتنتفض في وجه المستعمر الإسباني استقبالا لبعثة تقصي الحقائق الأممية سنة 1975، وكان حاضرا ليس مجرد ماض عندما انفجرت المظاهرات في وجه الغازي المغربي سنة 1987 مع قدوم البعثة التقنية للأمم المتحدة، وحضر عظيما خالدا عظمة وخلود انتفاضة الاستقلال المباركة في تاريخ الشعب الصحراوي منذ 21 ماي 2005 إلى الآن.

إن كون تلك الحلقات أتت متناثرة في مسيرة تاريخ الشعب الصحراوي على امتداد بضعة عقود، فإننا مع ذلك لا نملك إلا أن نقرأها ونفهما اليوم ككل موحد مكتمل نضاليا، كما انه مما يمكن أن ندركه من خلال استمرار المشروع الذي بدأه أولئك العظام منذ ذلك الحين وإلى غاية اليوم أن التاريخ لم يكن في وارده ولن يكن في وسعه أبد أن يخون الرجال العظماء عندما يخلصون الوفاء والالتحام مع قضايا شعوبهم المقدسة، ومازالت تلك الشعوب بخير مادامت تحفظ ذاكرتها وتصونها حية، وهو ما سيتوقف دوما على قدر ما نضخه من غالي التضحيات في سبيل مدها بأسباب الحياة، حياة يرضى عنها، أولئك الذين قضوا نحبهم وعزاؤهم أن نكون نحن الذين رغم طول الانتظار "ما بدلوا تبديلا "، يحدونا تمثل دائم لمقولة أرست ذات يوم لتفسير سر وكنه الخلود نطقها أحد مخلدي الشعب الصحراوي الشهيد الولي مصطفى السيد في حق رفيقه في الخلد الفقيد محمد سيد أبراهيم بصيري " إ ذا أرادت القدرة الخلود لإنسان سخرته لخدمة الجماهير".

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق